ارتبط قرار السلفيين بالدخول للمعترك السياسي بعد الثورة بقضية الهوية الإسلامية للمجتمع. ومع إقرار الدستور الذي ضمن بشكل كبير للسلفيين تطبيق الشريعة يبرز السؤال التالي: وماذا بعد الشريعة؟ هل انتهى المبرر لوجود السلفيين في الحياة السياسية وانتهت القضية التي تمكنوا من خلالها من حشد الملايين للتصويت لهم في الانتخابات ؟ هل سيتم تكرار النموذج الباكستاني للأحزاب الإسلامية ؟
نحتاج أن نعرف ما هو الوضع الباكستاني أولاً للقيام بالمقارنة بينه وبين مصر. على عكس مصر التي تعد بلداً عريقاً تأسس على الأسس الطبيعية لقيام أي دولة، لم يكن هناك ما يسمى بدولة باكستان حتى سنة 1947، حين انشطرت عن الهند الكبرى لتكون وطنًا قوميًّا للمسلمين الذين تعرضوا لاضطهاد بشع من الهندوس. فباكستان قامت على أساس الدين، والدين هو المرجعية القومية ويلعب الدور الأهم والأبرز في تشكيل الهوية الوطنية للباكستانيين، والدستور الباكستاني يزخر بعشرات النصوص المستقاة من الشريعة الإسلامية، بل يعبر في كثير من مواده بلفظة "المسلمين" محل المواطنين. ولا يتسع المجال لذكر بعض الأدلة على ذلك، وهذا الأمر جعل من عمل التيار السياسي الإسلامي في باكستان مسألة صعبة، حيث أنه غير قادر على تقديم نفسه كممثل ومدافع عن الشريعة الإسلامية مثلما يفعل نظيره المصري؛ لأن معظم الشعب الباكستاني متدين، ونصوص الدستور تكفل هذا التطبيق ولو نظريّاً.
كما أن تيار الإسلام السياسي الباكستاني يعاني من الضعف والتشتت، ولا يتمتع بنفس شعبية نظيره المصري، ولا يصل إلى المجالس المحلية والبرلمانية إلا وفق إرادة سياسية مقصودة من العسكر أو القوى العلمانية التي تسيطر على مؤسسات الحكم، كما حدث في ولاية برويز مشرف الذي اتفق مع العسكر على إفساح الطريق أمام جبهة العمل الإسلامي الموحد المكونة من ستة أحزاب إسلامية لدخول البرلمان سنة 2002. وذلك لأهداف معينة تخدم نفوذ الجيش في الحكم، منها مقاومة نفوذ وشعبية الحركات الإسلامية المجاهدة مثل طالبان باكستان وعسكر طيبة وجيش محمد ونفاذ الشريعة. وهي الحركات التي سببت إحراجًا لباكستان أمام الولايات المتحدة، ومنها تحجيم الأحزاب العلمانية المناوئة لمشرف مثل حزب الرابطة الإسلامية وحزب الشعب، ومنها استيعاب المشاعر المعادية للأمريكان بعد احتلال أفغانستان سنة 2001. ولكن ما لبث أن انهار هذا التحالف برحيل مشرف، وعادت العلاقة بين الجيش والعلمانيين في الحكم مع بقاء النفوذ الحقيقي في يد العسكر، وتنحية الإسلاميين من المشهد السياسي.
إذن غياب الاستقطاب أدى لتلاشي دور الأحزاب ذات المرجعية الدينية والسؤال هو: هل هذا الوضع مرشح للتكرار في مصر؟ مبدئياً ينقسم السلفيون إلى مستويات بناءاً على الحجم والانتشار والتنظيم من حيث درجة تعقيده أو بساطته ومرحلة الإدارة التي فيها إلى 3 أنواع :
إدارة الوجود: تدير نفسك لتحافظ على بقائك وهي المرحلة التي تقبع فيها معظم الكيانات الصغيرة.
إدارة القوة: اكتساب المزيد من القوة وتثبيتها والحفاظ عليها وهي المرحلة التي بدأت فيها كيانات منظمة كالدعوة السلفية بالإسكندرية عن طريق تقنين وضعها واستكمال مؤسساتها كحزب النور ذراعها السياسي وبيت الأعمال ذراعها الاقتصادي بالإضافة لنشاط كبير على المستوى الاجتماعي بطول البلاد وعرضها بل تعدى لحملات إغاثة بإفريقبا وسوريا مما جعلها رقماً صعباً بالفعل في المعادلة.
إدارة الهدف: كيف تستغل وجودك وقوتك في تحقيق هدفك وهي مرحلة لم يصل أحد من الأحزاب الإسلامية بعد. قد يكون هذا الكلام عن تكرار تجربة الباكستانيين مقبولاً عند الحديث عن الكيانات السلفية الصغيرة أما الكيانات الكبيرة لها مسؤوليات وتطلعات كبيرة بخلاف الكيانات الصغيرة التي تخوض في الأصل صراع وجود يرتبط غالباً بقيم عليا يزايد بها على الكيان الكبير (مالم توافقه في جمعة الشريعة أو تأييد مرشح ما فأنت لا تحب نصرة دين الله.) وحتى هذا الوضع –تلاشي الأحزاب الصغيرة – ربما يكون مؤجلاً لبعض الوقت لأن المعركة الأساسية التي حدث بسببها الاستقطاب لم تنته بعد، فالمنتج النهائي للدستور لم يحظ بالرضا الكامل لدى قطاع لا بأس به من الإسلاميين لا سيما اليمينين منهم إن جاز التعبير. (خريطة الأحزاب الإسلامية: الإخوان في المنتصف، وإلى يمين الخارطة حزب النور حيث يزداد التشبث بالمرجعية الإسلامية ومعه أحزاب الوطن، الأصالة، البناء والتنمية، على الخط الرأسي لحزب النور، يصطف حزب أبو إسماعيل الجديد، لكن إلى الأعلى قليلا ناحية الاتجاه الثوري وعلى يسار الإخوان، يقف حزب الوسط، ثم مصر القوية) وبالتالي ستظل هناك معركة جديدة عند كل مشروع قانون يقدم في إطار الحديث عن تقنين الشريعة ومحاربة الاتجاهات العلمانية الرافضة لهذه القوانين. أما بالنسبة للكيانات الكبيرة ربما تعاني الدعوة السلفية على المدى القصير من توابع الانفصال الذي حدث في حزب النور حتى تعيد ترتيب أوراقها. التهديد هنا ليس من حزب الوطن المنشق عنه فهو قد حكم على نفسه بأن يكون نسخة سلفية من حزب الوسط، أي حزباً نخبوياً بلا قواعد شعبية مؤثرة ولا يفيده كثيراً على المدى الطويل تحالفه مع حزب أبو اسماعيل الجديد لتباين الرؤى والمواقف خصوصاً وأن الناخب السلفي يستنفر بقضايا أيدلوجية ولن تعجبه الموائمات للحزب الجديد مثل دعوته للأقباط للترشح على قوائمه مما يخصم كثيراً من رصيده قبل بدء المعركة.
التهديد من جراء محاولات الصراع مع كيانات إسلامية أخرى –الحديث يتردد عن دعم الأخوان لمثل هذه المحاولات ببناء مرجعيات سلفية أخرى لسحب البساط من تحت أقدام الدعوة السلفية وهذه الكيانات يتم احتواؤها مثل الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح لأن الدعوة السلفية ما زالت هي أبرز منافسي الأخوان سواء لحجم التواجد في الشارع أو مخاطبتها نفس القطاع من الناخبين المستهدفين من قبل الإخوان. بالنسبة للكيانات الأخرى فحزب الشيخ حازم إن كان بتحالفه مع الوطن قد يسعى لحل مشكلة حزب الرجل الواحد، أي بلا قيادات أخرى عن طريق استقطاب كوادر النور المستقيلة إلى حظيرته، إلا أن هذا قد يفاقم وضعاً هو أصلاً مشكلة حالية خطيرة تنذر بتفكك الحزب وهي عدم التجانس الفكرى لأتباع الشيخ حازم حيث أنهم أوزاع شتى يجمعهم فقط التأثر بكاريزما رئيس الحزب. ويفتقد الحزب للجماعة الأم التي تفصل في المنازعات عند الحديث عن قوائم المرشحين وباقي المناصب العليا في الحزب.
المشكلة الأخرى أن دخول"حازمون" في اللعبة السياسية بقواعدها المعروفة يضطرها لاتخاذ مواقف تفقدها كثيرا من أسباب شعبيتها وسط الأوساط المتحمسة وما يصلح للزخم الثوري ربما لا يصلح لعمل إداري رتيب كحزب. التحدي أمام السلفيين بجميع أطيافهم إن أرادوا الاستمرار في اللعبة السياسية هو تقديم طرح سياسي متوازن لتطبيق الشريعة عن طريق وضع أحكام تصيغ حياة الناس بما يحقق لهم الأفضل في كل المجالات ولكن بما يتعامل مع الواقع بكل انحرافاته بدلاً من استيراد قوالب جامدة من كتب الفقه (مثال التعامل مع الرئيس على أنه رئيس لا خليفة للمسلمين.) حيث أن أغلب الحركات الإسلامية عندها فجوة بسبب النموذج المثالي وهو نموذج إسلامي لا يستطيع أن يركب في بيئة الواقع مثل من يشتري جهاز ماركة عالمية من الخارج ولا يستطيع تشغيله لأن أن الفيشة ثلاثية لا تركب على مخرج الكهرباء الثنائي الحائطي.